سورة البقرة - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (البقرة)


        


{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)}
اعلم أن هذا هو النعمة الثانية التي عمت المكلفين بأسرهم وما أحسن ما رعى الله سبحانه وتعالى هذا الترتيب فإن الانتفاع بالأرض والسماء إنما يكون بعد حصول الحياة فلهذا ذكر الله أمر الحياة أولاً ثم أتبعه بذكر السماء والأرض، أما قوله: {خُلِقَ} فقد مر تفسيره في قوله: {اعبدوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ} [البقرة: 21] وأما قوله: {لَكُمْ} فهو يدل على أن المذكور بعد قوله خلق لأجل انتفاعنا في الدين والدنيا، أما في الدنيا فليصلح أبداننا ولنتقوى به على الطاعات وأما في الدين فللاستدلال بهذه الأشياء والاعتبار بها وجمع بقوله: {مَّا فِي الأرض جَمِيعاً} جميع المنافع، فمنها ما يتصل بالحيوان والنبات والمعادن والجبال ومنها ما يتصل بضروب الحرف والأمور التي استنبطها العقلاء وبين تعالى أن كل ذلك إنما خلقها كي ينتفع بها كما قال: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السموات وَمَا فِي الأرض} [الجاثية: 13] فكأنه سبحانه وتعالى قال كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم وكيف تكفرون بالله وقد خلق لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً أو يقال كيف تكفرون بقدرة الله على الإعادة وقد أحياكم بعد موتكم ولأنه خلق لكم ما في الأرض جميعاً فكيف يعجز عن إعادتكم ثم إنه تعالى ذكر تفاصيل هذه المنافع في سورة مختلفة كما قال: {أَنَّا صَبَبْنَا الماء صَبّاً} [عبس: 25] وقال في أول سورة أتى أمر الله {والأنعام خَلَقَهَا لَكُمْ} [النحل: 5] إلى آخره وهاهنا مسائل:
المسألة الأولى: قال أصحابنا: إنه سبحانه وتعالى لا يفعل فعلاً لغرض لأنه لو كان كذلك كان مستكملاً بذلك الغرض والمستكمل بغيره ناقص بذاته وذلك على الله تعالى محال فإن قيل: فعله تعالى معلل بغرض غير عائد إليه بل إلى غيره، قلنا: عود ذلك الغرض إلى ذلك الغير هل هو أولى لله تعالى من عود ذلك الغرض إليه أو ليس أولى؟ فإن كان أولى فهو تعالى قد انتفع بذلك الفعل فيعود المحذور المذكور وإن كان الثاني لم يكن تحصيل ذلك الغرض المذكور لذلك الغير غرضاً لله تعالى فلا يكون مؤثراً فيه.
وثانيها: أن من فعل فعلاً لغرض كان عاجزاً عن تحصيل ذلك الغرض إلا بواسطة ذلك الفعل والعجز على الله تعالى محال.
وثالثها: أنه تعالى لو فعل فعلاً لغرض لكان ذلك الغرض إن كان قديماً لزم قدم الفعل وإن كان محدثاً كان فعله لذلك الغرض لغرض آخر ويلزم التسلسل وهو محال.
ورابعها: أنه تعالى لو كان يفعل لغرض لكان ذلك الغرض هو رعاية مصلحة المكلفين ولو توقفت فاعليته على ذلك لما فعل ما كان مفسدة في حقهم لكنه قد فعل ذلك حيث كلف من علم أنه لا يؤمن ثم إنهم تكلموا في اللام في قوله تعالى: {خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأرض جَمِيعاً} وفي قوله: {إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] فقالوا إنه تعالى لما فعل ما لو فعله غيره لكان فعله لذلك الشيء لأجل الغرض لا جرم أطلق الله عليه لفظ الغرض بسبب هذه المشابهة.
المسألة الثانية: احتج أهل الإباحة بقوله تعالى: {خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأرض جَمِيعاً} على أنه تعالى خلق الكل للكل فلا يكون لأحد اختصاص بشيء أصلاً وهو ضعيف لأنه تعالى قابل الكل بالكل، فيقتضي مقابلة الفرد بالفرد، والتعيين يستفاد من دليل منفصل والفقهاء رحمهم الله استدلوا به على أن الأصل في المنافع الإباحة وقد بيناه في أصول الفقه.
المسألة الثالثة: قيل إنها تدل على حرمة أكل الطين لأنه تعالى خلق لنا ما في الأرض دون نفس الأرض، ولقائل أن يقول في جملة الأرض ما يطلق عليه أنه في الأرض فيكون جمعاً للموضعين، ولا شك أن المعادن داخلة في ذلك وكذلك عروق الأرض وما يجري مجرى بعض لها ولأن تخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفي الحكم عما عداه.
المسألة الرابعة: قوله: {خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأرض جَمِيعاً} يقتضي أنه لا تصح الحاجة على الله تعالى وإلا لكان قد فعل هذه الأشياء لنفسه أيضاً لا لغيره، وأما قوله تعالى: {ثُمَّ استوى إِلَى السماء} فيه مسائل:
المسألة الأولى: الاستواء في كلام العرب قد يكون بمعنى الانتصاب وضده الإعوجاج ولما كان ذلك من صفات الأجسام، فالله تعالى يجب أن يكون منزهاً عن ذلك ولأن في الآية ما يدل على فساده لأن قوله: {ثُمَّ استوى} يقتضي التراخي ولو كان المراد من هذا الاستواء العلو بالمكان لكان ذلك العلو حاصلاً أولاً ولو كان حاصلاً أولاً لما كان متأخراً عن خلق ما في الأرض لكن قوله: {ثُمَّ استوى} يقتضي التراخي، ولما ثبت هذا وجب التأويل وتقريره أن الاستواء هو الاستقامة يقال استوى العود إذا قام واعتدل ثم قيل استوى إليه كالسهم المرسل إذا قصده قصداً مستوياً من غير أن يلتفت إلى شيء آخر ومنه استعير قوله: {ثُمَّ استوى إِلَى السماء} أي خلق بعد الأرض السماء ولم يجعل بينهما زماناً ولم يقصد شيئاً آخر بعد خلقه الأرض.
المسألة الثانية: قوله تعالى: {هُوَ الذي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأرض جَمِيعاً ثُمَّ استوى إِلَى السماء} مفسر بقوله: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذى خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ العالمين وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ مِن فَوْقِهَا وبارك فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أقواتها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لّلسَّائِلِينَ} [فصلت: 9، 10] بمعنى تقدير الأرض في يومين وتقدير الأقوات في يومين آخرين كما يقول القائل من الكوفة إلى المدينة عشرون يوماً، وإلى مكة ثلاثون يوماً يريد أن جميع ذلك هو هذا القدر ثم استوى إلى السماء في يومين آخرين ومجموع ذلك ستة أيام على ما قال: {خُلِقَ السموات والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} [الأعراف: 54].
المسألة الثالثة: قال بعض الملحدة هذه الآية تدل على أن خلق الأرض قبل خلق السماء وكذا قوله: {أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذى خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْنِ} إلى قوله تعالى: {ثُمَّ استوى إِلَى السماء} [فصلت: 9-10] وقال في سورة النازعات: {أَءنتُمْ خَلْقاً أَمِ السماء بناها رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضحاها والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دحاها} [النازعات: 27 30] وهذا يقتضي أن يكون خلق الأرض بعد السماء وذكر العلماء في الجواب عنه وجوهاً: أحدها: يجوز أن يكون خلق الأرض قبل خلق السماء إلا أنه ما دحاها حتى خلق السماء لأن التدحية هي البسط ولقائل أن يقول هذا أمر مشكل من وجهين:
الأول: أن الأرض جسم عظيم فامتنع انفكاك خلقها عن التدحية وإذا كانت التدحية متأخرة عن خلق السماء كان خلقها أيضاً لا محالة متأخراً عن خلق السماء.
الثاني: أن قوله تعالى: {خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأرض جَمِيعاً ثُمَّ استوى إِلَى السماء} يدل على أن خلق الأرض وخلق كل ما فيها متقدم على خلق السماء لكن خلق الأشياء في الأرض لا يمكن إلا إذا كانت مدحوة فهذه الآية تقتضي تقدم كونها مدحوة قبل خلق السماء وحينئذٍ يتحقق التناقض.
والجواب: أن قوله تعالى: {والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دحاها} [النازعات: 30] يقتضي تقديم خلق السماء على الأرض ولا يقتضي أن تكون تسوية السماء مقدمة على خلق الأرض، وعلى هذا التقدير يزول التناقض، ولقائل أن يقول: قوله تعالى: {أأنتم أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السماء بناها رَفَعَ رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا} [النازعات: 27 28] يقتضي أن يكون خلق السماء وتسويتها مقدم على تدحية الأرض ولكن تدحية الأرض ملازمة لخلق ذات الأرض فإن ذات السماء وتسويتها متقدمة على ذات الأرض وحينئذٍ يعود السؤال.
وثالثها: وهو الجواب الصحيح أن قوله: ثم ليس للترتيب هاهنا وإنما هو على جهة تعديد النعم، مثاله قول الرجل لغيره: أليس قد أعطيتك النعم العظيمة ثم رفعت قدرك ثم دفعت الخصوم عنك، ولعل بعض ما أخره في الذكر قد تقدم فكذا هاهنا والله أعلم.
المسألة الرابعة: الضمير في فسواهن ضمير مبهم، وسبع سموات تفسير له كقوله ربة رجلاً وفائدته أن المبهم إذا تبين كان أفخم وأعظم من أن يبين أولاً لأنه إذا أبهم تشوفت النفوس إلى الاطلاع عليه وفي البيان بعد ذلك شفاء لها بعد التشوف، وقيل الضمير راجع إلى السماء، والسماء في معنى الجنس وقيل جمع سماءة، والوجه العربي هو الأول ومعنى تسويتهن تعديل خلقهن وإخلاؤه من العوج والفطور وإتمام خلقهن.
المسألة الخامسة: اعلم أن القرآن هاهنا قد دل على وجود سبع سموات، وقال أصحاب الهيئة أقربها إلينا كرة القمر، وفوقها كرة عطارد، ثم كرة الزهرة، ثم كرة الشمس، ثم كرة المريخ، ثم كرة المشتري، ثم كرة زحل، قالوا ولا طريق إلى معرفة هذا الترتيب إلا من وجهين:
الأول: الستر وذلك أن الكوكب الأسفل إذا مر بين أبصارنا وبين الكوكب الأعلى فإنهما يصيران ككوكب واحد ويتميز الساتر عن المستور بكونه الغالب كحمرة المريخ وصفرة عطارد، وبياض الزهرة، وزرقة المشتري، وكدورة زحل كما أن القدماء وجدوا القمر يكسف الكواكب الستة. وكوكب عطارد يكسف الزهرة، والزهرة تكسف المريخ، وهذا الترتيب على هذا الطريق يدل على كون الشمس فوق القمر لانكسافها به ولكن لا يدل على كونها تحت سائر الكواكب أو فوقها لأنها لا تنكسف بشيء منها لاضمحلال سائر الكواكب عند طلوعها فعند هذا ذكروا طريقين: أحدهما: ذكر بعضهم أنه رأى الزهرة كشامة في صحيفة الشمس، وهذا ضعيف لأن منهم من زعم أن في وجه الشمس شامة كما أن حصل في وجه القمر المحو.
الثاني: اختلاف المنظر فإنه محسوس للقمر وعطارد والزهرة وغير محسوس للمريخ والمشتري وزحل، وأما في حق الشمس فإنه قليل جداً فوجب أن تكون الشمس متوسطة بين القسمين هذا ما قاله الأكثرون إلا أن أبا الريحان قال في تلخيصه لفصول الفرغاني: إن اختلاف المنظر لا يحس إلا في القمر فبطلت هذه الوجوه وبقي موضع الشمس مشكوكاً.
واعلم أن أصحاب الأرصاد وأرباب الهيئة زعموا أن الأفلاك تسعة، فالسبعة هي هذه التي ذكرناها والفلك الثامن هو الذي حصلت هذه الكواكب الثابتة فيه، وأما الفلك التاسع فهو الفلك الأعظم وهو يتحرك في كل يوم وليلة دورة واحدة بالتقريب، واحتجوا على إثبات الفلك الثامن بأنا وجدنا لهذه الكواكب الثابتة حركات بطيئة وثبت أن الكواكب لا تتحرك إلا بحركة فلكها والأَفلاك الحاملة لهذه السيارات تتحرك حركات سريعة فلابد من جسم آخر يتحرك حركة بطيئة ويكون هو الحامل لهذه الثوابت، وهذه الدلالة ضعيفة من وجوه: أولها: لم لا يجوز أن يقال الكواكب تتحرك بأنفسها من غير أن تكون مركوزة في جسم آخر وهذا الاحتمال لا يفسد إلا بإفساد المختار ودونه خرط القتاد.
وثانيها: سلمنا ذلك لكن لم لا يجوز أن يقال إن هذه الكواكب مركوزة في ممثلات السيارات والسيارات مركوزة في حواملها، وعند ذلك لا يحتاج إلى إثبات الفلك الثامن.
وثالثها: لم لا يجوز أن يكون ذلك الفلك تحت فلك القمر فيكون تحت كرات السيارات لا فوقها فإن قيل إنا نرى هذه السيارات تكسف هذه الثوابت والكاسف تحت المكسوف لا محالة قلنا هذه السيارات إنما تكسف الثوابت القريبة من المنطقة فأما الثوابت القريبة من القطبين فلا، فلم لا يجوز أن يقال هذه الثوابت القريبة من المنطقة مركوزة في الفلك الثامن الذي هو فوق كرة زحل وهذه الثوابت القريبة من القطبين التي لا يمكن انكسافها بالسيارات مركوزة في كرة أخرى تحت كرة القمر وهذا الاحتمال لا دافع له، ثم نقول هب أنكم أثبتم هذه الأفلاك التسعة فما الذي دلكم على نفي الفلك العاشر، أقصى ما في الباب أن الرصد ما دل إلا على هذا القدر إلا أن عدم الدليل لا يدل على عدم المدلول، والذي يحقق ذلك أنه قال بعض المحققين منهم: إنه ما تبين لي إلى الآن أن كرة الثوابت كرة واحدة أو كرات منطو بعضها على بعض وأقول هذا الاحتمال واقع، لأن الذي يستدل به على وحدة كرة الثوابت ليس إلا أن يقال إن حركاتها متشابهة ومتى كان الأمر كذلك كانت مركوزة في كرة واحدة وكلتا المقدمتين غير يقينيتين.
أما الأولى: فلأن حركاتها وإن كانت في الحس واحدة ولكن لعلها لا تكون في الحقيقة واحدة، لأنا لو قدرنا أن واحداً منها يتمم الدورة في ستة وثلاثين ألف سنة. والآخر يتمم الدورة في مثل هذه المدة بنقصان سنة واحدة فإذا وزعنا ذلك النقصان على هذه السنين كان الذي هو حصة السنة الواحدة ثلاثة عشر جزءاً من ألف ومائتي جزء من واحد، وهذا القدر مما لا يحس به بل العشر سنين والمائة والألف مما لا يحس به ألبتة، وإذا كان ذلك محتملاً سقط القطع ألبتة عن استواء حركات الثوابت.
وأما الثانية: فلأن استواء حركات الثوابت في مقادير حركاتها لا يوجب كونها بأسرها مركوزة في كرة واحدة لاحتمال كونها مركوزة في كرات متباينة وإن كانت مشتركة في مقادير حركاتها وهذا كما يقولون في ممثلات أكثر الكواكب فإنها في حركاتها مساوية لفلك الثوابت فكذا هاهنا.
وأقول: إن هذا الاحتمال الذي ذكره هذا القائل غير مختص بفلك الثوابت فلعل الجرم المتحرك بالحركة اليومية ليس جرماً واحداً بل أجراماً كثيرة إما مختلفة الحركات لكن بتفاوت قليل لا تفي بإدراكها أعمارنا وأرصادنا وإما متساوية على الإطلاق ولكن تساويها لا يوجب وحدتها، ومن أصحاب الهيئة من قطع بإثبات أفلاك أخر غير هذه التسعة فإن من الناس من أثبت كرة فوق كرة الثوابت وتحت الفلك الأعظم واستدل عليه من وجوه:
الأول: أن الراصدين للميل الأعظم وجدوه مختلف المقدار فكل من كان رصده أقدم وجد مقدار الميل أعظم فإن بطليموس وجده لح يا ثم وجد في زمان المأمون كح له ثم وجد بعد المأمون قد تناقص بدقيقة وذلك يقتضي أن من شأن المنطقتين أن يقل ميلهما تارة ويكثر أخرى وهذا إنما يمكن إذا كان بين كرة الكل وكرة الثوابت كرة أخرى يدور قطباها حول قطبي كرة الكل وتكون كرة الثوابت يدور قطباها حول قطبي تلك الكرة فيعرض لقطبها تارة أن يصير إلى جانب الشمال منخفضاً وتارة إلى جانب الجنوب مرتفعاً فيلزم من ذلك أن ينطبق معدل النهار على منطقة البروج، وأن ينفصل عنه تارة أخرى إلى الجنوب عندما يرتفع قطب فلك الثوابت إلى الجنوب، وتارة إلى الشمال. كما هو الآن.
الثاني: أن أصحاب الأرصاد اضطربوا اضطراباً شديداً في مقدار سير الشمس على ما هو مشروح في كتب النجوم حتى أن بطليموس حكى عن أبرخيس أنه كان شاكاً في أن هذه العودة تكون في أزمنة متساوية أو مختلفة وأنه يقول في بعض أقاويله: إنها مختلفة، وفي بعضها: إنها متساوية في أن الناس ذكروا في سبب اختلافه قولين: أحدهما: قول من يجعل أوج الشمس متحركاً فإنه زعم أن الاختلاف الذي يلحق حركة الشمس من هذه الجهة يختلف عند نقطة الاعتدال لاختلاف بعدها عن الأوج فيختلف زمان سير الشمس من أجله.
الثاني: قول أهل الهند والصين وبابل وأكثر قدماء الروم ومصر والشام: إن السبب فيه انتقال فلك البروج وارتفاع قطبه وانحطاطه، وحكي عن أبرخيس أنه كان يعتقد هذا الرأي وذكر بارياء الإسكندراني أن أصحاب الطلسمات كانوا يعتقدون ذلك وأن نقطة فلك البروج تتقدم عن موضعها وتتأخر ثمان درجات وقالوا إن ابتداء الحركة من كب درجة من الحوت إلى أول الحمل واعلم أن هذا الخبط مما ينبهك على أنه لا سبيل للعقول البشرية إلى إدراك هذه الأشياء وأنه لا يحيط بها إلا علم فاطرها وخالقها فوجب الاقتصار فيه على الدلائل السمعية، فإن قال قائل فهل يدل التنصيص على سبع سموات على نفي العدد الزائد؟ قلنا الحق أن تخصيص العدد بالذكر لا يدل على نفي الزائد.
المسألة السادسة: قوله تعالى: {وَهُوَ بِكُلّ شَيء عَلِيمٌ} يدل على أنه سبحانه وتعالى لا يمكن أن يكون خالقاً للأرض وما فيها وللسموات وما فيها من العجائب والغرائب إلا إذا كان عالماً بها محيطاً بجزئياتها وكلياتها، وذلك يدل على أمور:
أحدها: فساد قول الفلاسفة الذين قالوا إنه لا يعلم الجزئيات وصحة قول المتكلمين، وذلك لأن المتكلمين استدلوا على علم الله تعالى بالجزئيات بأن قالوا: إن الله تعالى فاعل لهذه الأجسام على سبيل الإحكام والإتقان وكل فاعل على هذا الوجه فإن لابد وأن يكون عالماً بما فعله وهذه الدلالة بعينها ذكرها الله تعالى في هذا الموضع لأنه ذكر خلق السموات والأرض ثم فرع على ذلك كونه عالماً، فثبت بهذا أن قول المتكلمين في هذا المذهب وفي هذا الاستدلال مطابق للقرآن.
وثانيها: فساد قول المعتزلة وذلك لأنه سبحانه وتعالى بين أن الخالق للشيء على سبيل التقدير والتحديد لابد وأن يكون عالماً به وبتفاصيله لأن خالقه قد خصه بقدر دون قدر والتخصيص بقدر معين لابد وأن يكون بإرادة وإلا فقد حصل الرجحان من غير مرجح والإرادة مشروطة بالعلم فثبت أن خالق الشيء لابد وأن يكون عالماً به على سبيل التفصيل. فلو كان العبد موجداً لأفعال نفسه لكان عالماً بها وبتفاصيلها في العدد والكمية والكيفية فلما لم يحصل هذا العلم علمنا أنه غير موجد نفسه.
وثالثها: قالت المعتزلة: إذا جمعت بين هذه الآية وبين قوله: {وَفَوْقَ كُلّ ذِى عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76] ظهر أنه تعالى عالم بذاته، والجواب: قوله تعالى: {وَفَوْقَ كُلّ ذِى عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76] عام وقوله: {أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [النساء: 166] خاص والخاص مقدم على العام. والله تعالى أعلم.


{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)}
اعلم أن هذه الآية دالة على كيفية خلقة آدم عليه السلام وعلى كيفية تعظيم الله تعالى إياه فيكون ذلك إنعاماً عاماً على جميع بني آدم فيكون هذا هو النعمة الثالثة من تلك النعم العامة التي أوردها في هذا الموضع ثم فيه مسائل:
المسألة الأولى: في إذ قولان:
أحدهما: أنه صلة زائدة إلا أن العرب يعتادون التكلم بها والقرآن نزل بلغة العرب.
الثاني: وهو الحق أنه ليس في القرآن ما لا معنى له وهو نصب بإضمار اذكر، والمعنى أذكر لهم قال ربك للملائكة فأضمر هذا لأمرين: أحدهما: أن المعنى معروف.
والثاني: أن الله تعالى قد كشف ذلك في كثير من المواضع كقوله: {واذكر أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بالأحقاف} [الأحقاف: 21] وقال: {واذكر عَبْدَنَا دَاوُودَ} [ص: 17]، {واضرب لَهُمْ مَّثَلاً أصحاب القرية إِذْ جَاءهَا المرسلون إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثنين} [يس: 13، 14] والقرآن كله كالكلمة الواحدة ولا يبعد أن تكون هذه المواضع المصرحة نزلت قبل هذه السورة فلا جرم ترك ذلك هاهنا اكتفاء بذلك المصرح.
قال صاحب الكشاف: ويجوز أن ينتصب إذ بقالوا.
المسألة الثانية: الملك أصله من الرسالة، يقال ألكني إليه أي أرسلني إليه والمألكة والألوكة الرسالة وأصله الهمزة من ملأكة حذفت الهمزة وألقيت حركتها على ما قبلها طلباً للخفة لكثرة استعمالها، قال صاحب الكشاف: الملائك جمع ملأك على الأصل كالشمائل في جمع شمأل وإلحاق التاء لتأنيث الجمع.
المسألة الثالثة: من الناس من قال: الكلام في الملائكة ينبغي أن يكون مقدماً على الكلام في الأنبياء لوجهين:
الأول: أن الله تعالى قدم ذكر الإيمان بالملائكة على ذكر الإيمان بالرسل في قوله: {والمؤمنون كُلٌّ ءامَنَ بالله وَمَلَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} [المؤمنون: 285] ولقد قال عليه السلام: «ابدؤا بما بدأ الله به» الثاني: أن الملك واسطة بين الله وبين الرسول في تبليغ الوحي والشريعة فكان مقدماً على الرسول، ومن الناس من قال: الكلام في النبوات مقدم على الكلام في الملائكة لأنه لا طريق لنا إلى معرفة وجود الملائكة بالعقل بل بالسمع، فكان الكلام في النبوات أصلاً للكلام في الملائكة فلا جرم وجب تقديم الكلام في النبوات، والأولى أن يقال الملك قبل النبي بالشرف والعلية وبعده في عقولنا وأذهاننا بحسب وصولنا إليها بأفكارنا.
واعلم أنه لا خلاف بين العقلاء في أن شرف الرتبة للعالم العلوي هو وجود الملائكة فيه كما أن شرف الرتبة للعالم السفلى هو وجود الإنسان فيه إلا أن الناس اختلفوا في ماهية الملائكة وحقيقتهم وطريق ضبط المذاهب أن يقال: الملائكة لابد وأن تكون ذوات قائمة بأنفسها ثم إن تلك الذوات إما أن تكون متحيزة أولا تكون، أما الأول: وهو أن تكون الملائكة ذوات متحيزة فهنا أقوال: أحدها: أنها أجسام لطيفة هوائية تقدر على التشكل بأشكال مختلفة مسكنها السموات، وهذا قول أكثر المسلمين.
وثانياً: قول طوائف من عبدة الأوثان وهو أن الملائكة هي الحقيقة في هذه الكواكب الموصوفة بالإسعاد والأنحاس فإنها بزعمهم أحياء ناطقة، وأن المسعدات منها ملائكة الرحمة والمنحسات منها ملائكة العذاب.
وثالثها: قول معظم المجوس والثنوية وهو أن هذا العالم مركب من أصلين أزليين وهما النور والظلمة، وهما في الحقيقة جوهران شفافان مختاران قادران متضادا النفس والصورة مختلفا الفعل والتدبير، فجوهر النور فاضل خير نقي طيب الريح كريم النفس يسر ولا يضر، وينفع ولا يمنع، ويحيى ولا يبلى وجوهر الظلمة على ضد ذلك. ثم إن جوهر النور لم يزل يولد الأولياء وهم الملائكة لا على سبيل التناكح بل على سبيل تولد الحكمة من الحكيم والضوء من المضيء. وجوهر الظلمة لم يزل يولد الأعداء وهم الشياطين على سبيل تولد السفه من السفيه لا على سبيل التناكح فهذه أقوال من جعل الملائكة أشياء متحيزة جسمانية.
القول الثاني: أن الملائكة ذوات قائمة بأنفسها وليست بمتحيزة ولا بأجسام فهاهنا قولان:
أحدهما: قول طوائف من النصارى وهو أن الملائكة في الحقيقة هي الأنفس الناطقة المفارقة لأبدانها على نعت الصفاء والخيرية وذلك لأن هذه النفوس المفارقة إن كانت صافية خالصة فهي الملائكة، وإن كانت خبيثة كدرة فهي الشياطين.
وثانيهما: قول الفلاسفة: وهي أنها جواهر قائمة بأنفسها وليست بمتحيزة ألبتة، وأنها بالماهية مخالفة لأنواع النفوس الناطقة البشرية وأنها أكمل قوة منها وأكثر علماً منها، وأنها للنفوس البشرية جارية مجرى الشمس بالنسبة إلى الأضواء، ثم إن هذه الجواهر على قسمين، منها ما هي بالنسبة إلى أجرام الأفلاك والكواكب كنفوسنا الناطقة بالنسبة إلى أبداننا، ومنها ما هي لا على شيء من تدبير الأفلاك بل هي مستغرقة في معرفة الله ومحبته ومشتغلة بطاعته، وهذا القسم هم الملائكة المقربون ونسبتهم إلى الملائكة الذين يدبرون السموات كنسبة أولئك المدبرين إلى نفوسنا الناطقة. فهذان القسمان قد اتفقت الفلاسفة على إثباتهما، ومنهم من أثبت أنواعاً أخر من الملائكة وهي الملائكة الأرضية المدبرة لأحوال هذا العالم السفلي، ثم إن المدبرات لهذا العالم إن كانت خيرة فهم الملائكة وإن كانت شريرة فهم الشياطين، فهذا تفصيل مذاهب الناس في الملائكة واختلف أهل العلم في أنه هل يمكن الحكم بوجودها من حيث العقل أو لا سبيل إلى إثباتها إلا بالسمع؟ أما الفلاسفة فقد اتفقوا على أن في العقل دلائل تدل على وجود الملائكة، ولنا معهم في ت


{وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31)}
اعلم أن الملائكة لما سألوا عن وجه الحكمة في خلق آدم وذريته وإسكانه تعالى إياهم في الأرض وأخبر الله تعالى عن وجه الحكمة في ذلك على سبيل الإجمال بقوله تعالى: {إِنّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} أراد تعالى أن يزيدهم بياناً وأن يفصل لهم ذلك المجمل، فبين تعالى لهم من فضل آدم عليه السلام ما لم يكن من ذلك معلوماً لهم، وذلك بأن علم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم عليهم ليظهر بذلك كمال فضله وقصورهم عنه في العلم فيتأكد ذلك الجواب الإجمالي بهذا الجواب التفصيلي وهاهنا مسائل:
المسألة الأولى: قال الأشعري والجبائي والكعبي: اللغات كلها توقيفية بمعنى أن الله تعالى خلق علماً ضرورياً بتلك الألفاظ وتلك المعاني، وبأن تلك الألفاظ موضوعة لتلك المعاني.
واحتجوا عليه بقوله تعالى: {وَعَلَّمَ ءادَمَ الأسماء كُلَّهَا} والكلام على التمسك بهذه الآيه سؤالاً وجواباً ذكرناه في أصول الفقه.
وقال أبو هاشم: إنه لابد من تقدم لغه إصطلاحيه واحتج على أنه لابدّ وأن يكون الوضع مسبوقاً بالإصطلاح بأمور:
أحدها: أنه لو حصل العلم الضروري بأنه تعالى وضع هذه اللفظه لهذا المعنى لكان ذلك العلم إما أن يحصل للعاقل أو لغير العاقل، لا جائز أن يحصل للعاقل لأنه لو حصل العلم الضروري بأنه تعالى وضع ذلك اللفظ لذلك المعنى لصارت صفه الله تعالى معلومه بالضروره مع أنه ذاته معلومه بلإستدلال وذلك محال ولا جائز أن يحصل لغير العاقل لأنه يبعد في العقول أن يحصل العلم بهذه اللغات مع ما فيها من الحكم العجيبه لغير العاقل، فثبت أن القول بالتوقيف فاسد.
وثانيها: أنه تعالى خاطب الملائكه وذلك يوجب تقدم لغه على ذلك التكلم.
وثالثها: أن قوله: {وعلم آدم الأسماء كلها} يقتضي إضافة التعليم إلى الأسماء. وذلك يقتضي في تلك الأسماء أنها كانت أسماء قبل ذلك التعليم، وإذا كان كذلك كانت اللغات حاصلة قبل ذلك التعليم.
ورابعها: أن آدم عليه السلام لما تحدى الملائكة بعلم الأسماء فلابد وأن تعلم الملائكة كونه صادقاً في تعيين تلك الأسماء لتلك المسميات، وإلا لم يحصل العلم بصدقه، وذلك يقتضي أن يكون وضع تلك الأسماء لتلك المسميات متقدماً على ذلك التعليم.
والجواب عن الأول: لم لا يجوز أن يقال بخلق العلم الضروري بأن واضعاً وضع هذه الأسماء لهذه المسميات من غير تعيين أن ذلك الواضع هو الله تعالى أو الناس؟ وعلى هذا لا يلزم أن تصير الصفة معلومة بالضرورة حال كون الذات معلومة بالدليل. سلمنا أنه تعالى ما خلق هذا العلم في العاقل، فلم لا يجوز أن يقال: إنه تعالى خلقه في غير العاقل والتعويل على الاستعباد في هذا المقام مستبعد.
وعن الثاني: لم لا يجوز أن يقال خاطب الملائكة بطريق آخر بالكتابة وغيرها.
وعن الثالث: لا شك إن إرادة الله تعالى وضع تلك الألفاظ لتلك المعاني سابقة على التعليم فكفى ذلك في إضافة التعليم إلى الأسماء، وعن الرابع: ماسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى والله تعالى أعلم.
المسألة الثانية: من الناس من قال قوله: {وَعَلَّمَ ءادَمَ الاسماء كُلَّهَا} أي علمه صفات الأشياء ونعوتها وخواصها والدليل عليه أن الاسم اشتقاقه إما من السمة أو من السمو، فإن كان من السمة كان الاسم هو العلامة وصفات الأشياء ونعوتها وخواصها دالة على ماهياتها، فصح أن يكون المراد من الأسماء: الصفات، وإن كان من السمو فكذلك لأن دليل الشيء كالمرتفع على ذلك الشيء فإن العلم بالدليل حاصل قبل العلم بالمدلول، فكان الدليل أسمى في الحقيقة، فثبت أنه لا امتناع في اللغة أن يكون المراد من الاسم الصفة، بقي أن أهل النحو خصصوا لفظ الاسم بالألفاظ المخصوصة، ولكن ذلك عرف حادث لا اعتبار به، وإذا ثبت أن هذا التفسير ممكن بحسب اللغة وجب أن يكون هو المراد لا غيره، لوجوه:
أحدها: أن الفضيلة في معرفة حقائق الأشياء أكثر من الفضيلة في معرفة أسمائها، وحمل الكلام المذكور لإظهار الفضيلة على ما يوجب مزيد الفضيلة، أولى من حمله على ما ليس كذلك.
وثانيها: أن التحدي إنما يجوز ويحسن بما يتمكن السامع من مثله في الجملة، فإن من كان عالماً باللغة والفصاحة، يحسن أن يقول له غيره على سبيل التحدي: ائت بكلام مثل كلامي في الفصاحة، أما العربي فلا يحسن منه أن يقول للزنجي في معرض التحدي: تكلم بلغتي، وذلك لأن العقل لا طريق له إلى معرفة اللغات البتة: بل ذلك لا يحصل إلا بالتعليم، فإن حصل التعليم، حصل العلم به وإلا فلا، أما العلم بحقائق الأشياء، فالعقل متمكن من تحصيله فصحَّ وقوع التحدي فيه.
القول الثاني: وهو المشهور أن المراد أسماء كل ما خلق الله من أجناس المحدثات من جميع اللغات المختلفة التي يتكلم بها ولد آدم اليوم من العربية والفارسية والرومية وغيرها، وكان ولد آدم عليه السلام يتكلمون بهذه اللغات فلما مات آدم وتفرق ولده في نواحي العالم تكلم كل واحد منهم بلغة معينة من تلك اللغات، فغلب عليه ذلك اللسان، فلما طالت المدة ومات منهم قرن بعد قرن نسوا سائر اللغات، فهذا هو السبب في تغير الألسنة في ولد آدم عليه السلام.
قال أهل المعاني: قوله تعالى: {وَعَلَّمَ ءادَمَ الاسماء} لابد فيه من إضمار، فيحتمل أن يكون المراد وعلم آدم أسماء المسميات، ويحتمل أن يكون المراد وعلم آدم مسميات الأسماء، قالوا لكن الأول أولى لقوله: {أَنبِئُونِى بِأَسْمَاء هَؤُلاء} وقوله تعالى: {فَلَمَّا أَنبَأَهُم بِأَسْمَائِهِم} ولم يقل أنبئوني بهؤلاء وأنبأهم بهم، فإن قيل: فلما علمه الله تعالى أنواع جميع المسميات، وكان في المسميات ما لا يكون عاقلاً، فلم قال عرضهم ولم يقل عرضها؟ قلنا لأنه لما كان في جملتها الملائكة والإنس والجن وهم العقلاء، فغلب الأكمل، لأنه جرت عادة العرب بتغليب الكامل على الناقص كلما غلبوا.
المسألة الثالثة: من الناس من تمسك بقوله تعالى: {أَنبِئُونِى بِأَسْمَاء هَؤُلاء} على جواز تكليف ما لا يطاق وهو ضعيف، لأنه تعالى إنما استنبأهم مع علمه تعالى بعجزهم على سبيل التبكيت ويدل على ذلك قوله تعالى: {إِن كُنتُمْ صادقين}.
المسألة الرابعة: قالت المعتزلة: إن ما ظهر من آدم عليه السلام من علمه بالأسماء معجزة دالة على نبوته عليه السلام في ذلك الوقت، والأقرب أنه كان مبعوثاً إلى حواء ولا يبعد أيضاً أن يكون مبعوثاً إلى من توجه التحدي إليهم من الملائكة لأن جميعهم وإن كانوا رسلاً فقد يجوز الإرسال إلى الرسول كبعثة إبراهيم عليه السلام إلى لوط عليه السلام واحتجوا عليه بأن حصول ذلك العلم له ناقض للعادة فوجب أن يكون معجزاً، وإذا ثبت كونه معجزاً ثبت كونه رسولاً في ذلك الوقت، ولقائل أن يقول لا نسلم أن ذلك العلم ناقض للعادة لأن حصول العلم باللغة لمن علمه الله تعالى وعدم حصوله لمن لم يعلمه الله ليس بناقض للعادة. وأيضاً فأما أن يقال: الملائكة علموا كون تلك الأسماء موضوعة لتلك المسميات أو ما علموا ذلك فإن علموا ذلك فقد قدروا على أن يذكروا أسماء تلك المسميات فحينئذٍ تحصل المعارضة ولا تظهر المزية والفضيلة، وإن لم يعلموا ذلك فكيف عرفوا أن آدم عليه السلام أصاب فيما ذكر من كون كل واحد من تلك الألفاظ إسماً لكل واحد من تلك المسميات، واعلم أنه يمكن دفع هذا السؤال من وجهين:
الأول: ربما كان لكل صنف من أصناف الملائكة لغة من هذه اللغات. وكان كل صنف جاهلاً بلغة الصنف الآخر ثم إن جميع أصناف الملائكة حضروا وأن آدم عليه السلام عد عليهم جميع تلك اللغات بأسرها فعرف كل صنف إصابته في تلك اللغة خاصة فعرفوا بهذا الطريق صدقه إلا أنهم بأسرهم عجزوا عن معرفة تلك اللغات بأسرها فكان ذلك معجزاً.
الثاني: لا يمتنع أن يقال إنه تعالى عرفهم قبل أن سمعوا من آدم عليه السلام تلك الأسماء ما استدلوا به على صدق آدم فلما سمعوا منه عليه السلام تلك الأسماء عرفوا صدقه فيها فعرفوا كونه معجزاً، سلمنا أنه ظهر عليه فعل خارق للعادة فلم لا يجوز أن يكون ذلك من باب الكرامات أو من باب الإرهاص وهما عندنا جائزان وحينئذٍ يصير الكلام في هذه المسألة فرعاً على الكلام فيهما واحتج من قطع بأنه عليه السلام ما كان نبياً في ذلك الوقت بوجوه:
أحدها: أنه لو كان نبياً في ذلك الزمان، لكان قد صدرت المعصية عنه بعد النبوة. وذلك غير جائز، فوجب أن لا يكون نبياً في ذلك الزمان أما الملازمة فلأن صدور الزلة عنه كان بعد هذه الواقعة بالاتفاق وتلك الزلة من باب الكبائر على ما سيأتي شرحه إن شاء الله تعالى والإقدام على الكبيرة يوجب استحقاق الطرد والتحقير واللعن وكل ذلك على الأنبياء غير جائز فيجب أن يقال وقعت تلك الواقعة قبل النبوة.
وثانيها: لو كان رسولاً في ذلك الوقت لكان إما أن يكون مبعوثاً إلى أحد أو لا يكون فإن كان مبعوثاً إلى أحد، فإما أن يكون مبعوثاً إلى الملائكة أو الإنس أو الجن والأول باطل لأن الملائكة عند المعتزلة أفضل من البشر ولا يجوز جعل الأدون رسولاً إلى الأشرف لأن الرسول والأمة تبع، وجعل الأدون متبوع الأشرف خلاف الأصل وأيضاً فالمرء إلى قبول القول ممن هو من جنسه أمكن ولهذا قال تعالى: {وَلَوْ جعلناه مَلَكاً لجعلناه رَجُلاً} [الأنعام: 9] ولا جائز أن يكون مبعوثاً إلى البشر، لأنه ما كان هناك أحد من البشر إلا حواء، وأن حواء إنماعرفت التكليف لا بواسطة آدم لقوله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة} [الأعراف: 19] شافههما بهذا التكليف وما جعل آدم واسطة ولا جائز أن يكون مبعوثاً إلى الجن لأنه ما كان في السماء أحد من الجن ولا جائز أيضاً أن يكون مبعوثاً إلى أحد لأن المقصود من جعله رسولاً التبليغ فحيث لا مبلغ لم يكن في جعله رسولاً فائدة وهذا الوجه ليس في غاية القوة.
وثالثها: قوله تعالى: {ثُمَّ اجتباه رَبُّهُ} [طه: 122] فهذه الآية دل على أنه تعالى إنما اجتباه بعد الزلة فوجب أن يقال إنه قبل الزلة ما كان مجتبى، وإذا لم يكن ذلك الوقت مجتبى وجب أن لا يكون رسولاً لأن الرسالة والاجتباء متلازمان لأن الاجتباء لا معنى له إلا التخصيص بأنواع التشريفات وكل من جعله الله رسولاً فقد خصه بذلك لقوله تعالى: {الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124].
المسألة الخامسة: ذكروا في قوله: {إِن كُنتُمْ صادقين} وجوهاً: أحدها: معناه أعلموني أسماء هؤلاء إن علمتم أنكم تكونون صادقين في ذلك الاعلام.
وثانيها: معناه أخبروني ولا تقولوا إلا حقاً وصدقاً فيكون الغرض منه التوكيد لما نبههم عليه من القصور والعجز، لأنه متى تمكن في أنفسهم العلم بأنهم إن أخبروا لم يكونوا صادقين ولا لهم إليه سبيل علموا أن ذلك متعذر عليهم.
وثالثها: إن كنتم صادقين في قولكم أنه لا شيء مما يتعبد به الخلق إلا وأنتم تصلحون وتقومون به وهو قول ابن عباس وابن مسعود.
ورابعها: إن كنتم صادقين في قولكم إني لم أخلق خلقاً إلا كنتم أعلم منه فأخبروني بأسماء هؤلاء.
المسألة السادسة: هذه الآية دالة على فضل العلم فإنه سبحانه ما أظهر كمال حكمته في خلقه آدم عليه السلام إلا بأن أظهر علمه فلو كان في الإمكان وجود شيء من العلم أشرف من العلم لكان من الواجب إظهار فضله بذلك الشيء لا بالعلم، واعلم أنه يدل على فضيلة العلم الكتاب والسنة والمنقول، أما الكتاب فوجوه:
الأول: أن الله تعالى سمى العلم بالحكمة ثم إنه تعالى عظم أمر الحكمة وذلك يدل على عظم شأن العلم، بيان أنه تعالى سمى العلم بالحكمة ما يروى عن مقاتل: أنه قال: تفسر الحكمة في القرآن على أربعة أوجه: أحدها: مواعظ القرآن قال في البقرة: {وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُم مّنَ الكتاب والحكمة} [البقرة: 231] يعني مواعظ القرآن وفي النساء: {وَأَنزَلَ الكتاب والحكمة} [النساء: 113] يعني المواعظ ومثلها في آل عمران.
وثانيها: الحكمة بمعنى الفهم والعلم قوله تعالى: {وَاتَيْنَاهُ الحكم صَبِيّاً} [مريم: 12] وفي لقمان {وَلَقَدْ ءاتَيْنَا لُقْمَانَ الحكمة} [لقمان: 12] يعني الفهم والعلم وفي الأنعام {أولئك الذين ءاتيناهم الكتاب والحكم} [الأنعام: 89].
وثالثها: الحكمة بمعنى النبوة في [النساء: 54] {فَقَدْ ءاتَيْنَا ءالَ إبراهيم الكتاب والحكمة} يعني النبوة وفي [ص: 20] {وآتيناه الحكمة} يعني النبوة وفي [البقرة: 251] {وآتاه الله الملك والحكمة}.
ورابعها: القرآن في النحل {ادع إلى سَبِيلِ رَبّكَ بالحكمة} [النحل: 125] وفي البقرة: {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِىَ خَيْرًا كَثِيراً} [البقرة: 269] وجميع هذه الوجوه عند التحقيق ترجع إلى العلم ثم تفكر أن الله تعالى ما أعطى من العلم إلا القليل قال: {وَمَا أُوتِيتُم مّن العلم إِلاَّ قَلِيلاً} [الإسراء: 85] وسمى الدنيا بأسرها قليلاً {قُلْ متاع الدنيا قَلِيلٌ} [النساء: 77] فما سماه قليلاً لا يمكننا أن ندرك كميته فما ظنك بما سماه كثيراً. ثم البرهان العقلي على قلة الدنيا وكثرة الحكمة أن الدنيا متناهي القدر متناهي العدد متناهي المدة. والعلم لا نهاية لقدره، وعدده ومدته ولا للسعادات الحاصلة منه، وذلك ينبهك على فضيلة العلم.
الثاني: قوله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الذين يَعْلَمُونَ والذين لاَ يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9] وقد فرق بين سبع نفر في كتابه فرق بين الخبيث والطيب فقال: {قُل لاَّ يَسْتَوِى الخبيث والطيب} [المائدة: 100] يعني الحلال والحرام، وفرق بين الأعمى والبصير فقال: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الاعمى والبصير} [الأنعام: 50] وفرق بين النور والظلمة فقال: {أَمْ هَلْ تَسْتَوِى الظلمات والنور} [الرعد: 16] وفرق بين الجنة والنار وبين الظل والحرور، وإذا تأملت وجدت كل ذلك مأخوذاً من الفرق بين العالم والجاهل.
الثالث: قوله: {أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول وَأُوْلِى الأمر مِنْكُمْ} [النساء: 59] والمراد من أولى الأمر العلماء في أصح الأقوال لأن الملوك يجب عليهم طاعة العلماء ولا ينعكس، ثم انظر إلى هذه المرتبة فإنه تعالى ذكر العالم في موضعين من كتابه في المرتبة الثانية قال: {شَهِدَ الله أَنَّهُ لا إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم} [آل عمران: 18]، وقال: {أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول وَأُوْلِى الأمر مِنْكُمْ} ثم إنه سبحانه وتعالى زاد في الإكرام فجعلهم في المرتبة الأولى في آيتين فقال تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله والراسخون فِي العلم} [آل عمران: 7] وقال: {قُلْ كفى بالله شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب} [الرعد: 43] الرابع: {يَرْفَعُ الِلَّهِ الذين ءامَنُواْ منكم والذين أوتوا العلم درجات} [المجادلة: 11] واعلم أنه تعالى ذكر الدرجات لأربعة أصناف:
أولها: للمؤمنين من أهل بدر قال: {إِنَّمَا المؤمنون الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال: 2] إلى قوله: {لَّهُمْ درجات عِندَ رَبّهِمْ} [الأنفال: 4].
والثانية: للمجاهدين قال: {وَفَضَّلَ الله المجاهدين عَلَى القاعدين} [النساء: 95].
والثالثة: للصالحين قال: {وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصالحات فأولئك لَهُمُ الدرجات العلى} [طه: 75].
الرابعة: للعلماء قال: {والذين أُوتُواْ العلم درجات} والله فضل أهل بدر على غيرهم من المؤمنين بدرجات وفضل المجاهدين على القاعدين بدرجات وفضل الصالحين على هؤلاء بدرجات ثم فضل العلماء على جميع الأصناف بدرجات، فوجب أن يكون العلماء أفضل الناس.
الخامس: قوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء} [فاطر: 28] فإن الله تعالى وصف العلماء في كتابه بخمس مناقب، أحدها: الإيمان {والراسخون فِي العلم يَقُولُونَ ءامَنَّا بِهِ} [آل عمران: 7].
وثانيها: التوحيد والشهادة {شَهِدَ الله} إلى قوله: {وَأُوْلُواْ العلم} [آل عمران: 18].
وثالثها: البكاء {وَيَخِرُّونَ لِلاْذْقَانِ يَبْكُونَ} [الإسراء: 109].
ورابعها: الخشوع {إن الذين أوتوا العلم من قبله} [الإسراء: 107] الآية.
وخامسها: الخشية {إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء} أما الأخبار فوجوه:
أحدها: روى ثابت عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أحب أن ينظر إلى عتقاء الله من النار فلينظر إلى المتعلمين فوالذي نفسي بيده ما من متعلم يختلف إلى باب عالم إلا كتب الله له بكل قدم عبادة سنّة وبنى له بكل قدم مدينة في الجنة ويمشي على الأرض والأرض تستغفر له ويمسي ويصبح مغفوراً له وشهدت الملائكة لهم بأنهم عتقاء الله من النار».
وثانيها: عن أنس قال: قال عليه السلام: «من طلب العلم لغير الله لم يخرج من الدنيا حتى يأتي عليه العلم فيكون لله ومن طلب العلم لله فهو كالصائم نهاره وكالقائم ليله وإن باباً من العلم يتعلمه الرجل خير من أن يكون له أبو قبيس ذهباً فينفقه في سبيل الله».
وثالثها: عن الحسن مرفوعاً من جاءه الموت وهو يطلب

4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11